هذا هو محور الفصل الثامن الذي خصصه الباقلاني لتحديد (كيفية الوقوف على إعجاز القرآن) يقول فيه: إنه لا يقف عليه إلاّ مَنْ عرف معرفة بيِّنة وجوه البلاغة العربية، وتكوَّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام بحيث يميِّز بين نمط شاعر وشاعر، ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام في الفصاحة, وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم "ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم ثشبيه عنده هذه الطرق، فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه، وإن كان يعم إحسانه عرف."[٣٣]
وبهذا المفهوم نستطيع أن نعرف أن الباقلاني يرد المسألة إلى الذوق وحُسْن تدرّبه على تمييز أصناف الكلام.. ولقد دفعه هذا الفهم إلى أن يسوق طائفة من خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم- ورسائله, ومن خطب الصحابة وغيرهم.. ليلمس القارئ فرق ما بين ذلك كله وبين القرآن.
ولا يقف عند حدود النثر.. بل ينطلق إلى آفاق الشعر، فيدرس معلقة امرئ القيس –إمام الشعراء -, ويبين ما فيها من تكلف وحشو، وخلل وتطويل، ولفظ غريب، وكيف تتفاوت أبياتها بين الجودة والرداء، والسلامة والغرابة، والسلامة والانحلال والاسترسال والتوحش والاستكراه.. "مع أنه قد أبدع في طرق الشعر أموراً اتبع فيها"[٣٤]
بعد ذلك.. يعود بنا ليتحدث عن جمال نظم القرآن وحسن تأليفه ورصفه وكيف أنه وُزّع على كل آياته بقسطاس سواء منها القصص وغير القصص، بينما يتفاوت كلام البلغاء من الشعراء حتى في القصيدة الواحدة. ويتناول قصيدة بديعة للبحتري الذي اشتهر بجمال ديباجته وحلاوة أنغامه وعذوبة ألفاظه، وهي لاميته المشهورة: