للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يمكن القول: إنه لم توجد هذه المرحلة النقدية من فراغ، وإنما وجَدتْ في تراث الجاهليين ما جعلها تتجه نحو النهج العقلي في تقويمها للأمور، وحكمها على الأشياء، بعد أن كان الاتجاه العاطفي هو السائد في النقد الجاهلي، وذلك راجع إلى طبيعة الإسلام الذي يقوم على الحجية والاقتناع، وينظّم المعايير الدينية والخلقية في السلوك الإنساني: العام والخاص، ولعل أبرز الأمثلة لهذا الاتجاه الديني في النقد ما ذكره الرواة من استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لقول كعب بن مالك:

فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ

جَاءَتْ سَخِينَةُ [١٤] كَيْ تُغالِبَ ربَّها

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا [١٥] "

وكذلك ما وقع من النابغة الجعْدي عبد الله بن قيس، وكان يُكْنىَ أبا ليلى حيث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشده:

ويَتْلو كِتاباً كالمَجَرَّةِ نيرّاً

أتيتُ رسول الله إذْ جاءَ بالهُدَى

وإنا لنرجو فوْق ذلكِ مظْهَراً

بَلَغْنَا السَّماء مَجْدَنا وجُدودُنا

فاعترضه الرسول صلى الله عليه وسلم، لشعوره بأنه سينهج في فخره على عادة الجاهليين، قائلا: "إلى أين أبا ليلى؟ "، فقال إلى الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "إن شاء الله" وأنشده:

بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَة أن يُكَدَّراَ

وَلاَ خَيْرَ في حِلْم إذاَ لم تَكُنْ لَهُ

حَليمٌ إذا ما أوْردَ الأمْرَ أصْدَراَ

وَلاَ خَيْر فيِ جهْلٍ إذا لم يَكُنْ له

فأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول؛ لأنه يوافق قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، ولذلك دعا المصطفى له بقوله، "لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ"، قالَ: فَبقيَ عُمْرَه لم تنقض له سِنٌّ [١٦] .