هذا هو النقد الإسلامي في عصره الأول ينشد العفة، ويتوخّى السهولة، بيد أنه لما قامت دولة بني أمية على أنقاض الخلافة الإسلامية تبدلت مظاهر الحياة، وتغيرت أحوال المجتمع، وصار لحكام بني أمية ما للأكاسرة والقياصرة فازدانت قصورهم بألوان الفخامة، وأنماط العظمة، مما جعلها مقصدا لأصحاب الحاجات، وطلاّب المنح والهبات، يتخذون من وسائل الزلفى لتحقيق ما يطلبون، فراحت سوق الشعر، واتسعت فنونه وأغراضه, وتأثرت معانيه وألفاظه بجو المنافسة الشديدة، وعاد الهجاء المقذع بين الثلاثي: جرير، والفرزدق، والأخطل, وكان نتاجهم ما عرف بشعر (النقائص) , وعادت الأسواق الأربعة في شكل (مِرْبد البصرة) البديل لـ (عكاظ) في الجاهلية, وجلس الخلفاء الأمويون لسماع الشعراء، ثم منحهم الجوائز، طمعا في الشهرة، وحبا في الثناء، ولا تستثني من هؤلاء الأمويين واحدا إلا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان ينصح دائما للشعراء بالتزام الصدق، وتجنب الكذب، كما أخبر بذلك مَسْلمَةُ بن عبد الملك فتى العرب آنذاك حين قدم عليه: كثِّير عزه، والأحوص، ونصَيْب يطلبون إنشاء الشعر في مجلس الخليفة عمر فأذن لهم في يوم جمعة بعدما أذن للعامّة، ودار حوار بين الخليفة عمر وبين كثير، قال كثيِّر: طال الثَّواء [٣٢] ، وقلّت الفائدة، وتحدَّثتْ بجفائك إيانا وفودُ العرب، فقال: يا كثيِّر: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أفي واحد من هؤلاء أنت؟ فقلت: ابن السبيل منقَطَعٌ به، وأنا ضاحك، قال: أو لست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى، قال: ما أرى مَنْ كان ضيفه منقطعا به، ثم قلت يا أمير المؤمنين: أتأذن لي في الإنشاد؟ قال: نعم، ولا تقل إلاّ حقا، فأنشدت قصيدة نذكر منها: