للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخطابة ـ مثلا ـ فنّ، أساسه استعداد فطري لا شك، لكن فهم الخطيب لطبيعة موقف الخطابة، وتكيفه بظروف الحاضرين، وأنها لون من السياسة النفسية للجماهير، وتصلح لتناول موضوعات دون غيرها، وتحتاج لاصطناع أسلوب غير ما يحتاج إليه في محاضرة مثلا، إلى ما يكون للآداء الصوتي من تأثير، بتلوين نبرات الصوت ودرجته، والوقفات والسكتات التي تتخللها، والسرعة والبطء، وطول الجمل وقصرها، وكونها مرسلة أو مسجوعة أو متوازنة.. وكيف يكون تفجير طاقات الناس واستفسارهم، أو استهواؤهم. وتهيئة قابليتهم لما يلقى إليهم، كل أولئك مما يفيد - الداعية - معرفته، ويزيد من بصيرته بفنه الذي يمارسه.

إن القرآن الكريم، حافل بالمناهج، والأساليب، والطرائق التي يتمكن الاستنباط منها والاستهداء بها في كل موقف نوعي يقفه الداعية أو يتعرض له: خطابة، وحواراً، وقصصاً، وموعظة، وتقريراً في تنوع يقدم لكل مقام ما يلائمه، ولكل موضوع ما يناسبه.

وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه العملية ذخيرة ثمينة وثرية لو تناولها باحث بالدرس والاستقراء، واستنبط منها الأصول النفسية والاجتماعية والدينية التي تفسر نفاذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلوب الناس وعقولهم. في سنة النبي هذه ما لو تناوله باحث حصيف لقدم لنا ما يمكن أن نسميه: علم نفس الدعوة، على غرار ما يعرف من علم النفس التعليمي أو التربوي. ويعمق أكثر فيما يتصل بطبيعة النفس، إذا كان منهج النبوة في دعوة الناس منهجاً ربانياً ألهمه إياه ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..

وفي وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لمبعوثيه الذين أرسلهم معلمين هنا وهناك من أمثال معاذ بن جبل، وفي إجاباته عن أسئلة محددة من أشخاص ذوي سمات خاصة مجال واسع لتأمل رشيد، يعود على صاحبه بما يفتح بصيرته على رؤى ومدارك لم يكن يراها من قبل.