لقد وضح لنا من تتبع الجرجاني بين ثنايا مُؤَلَّفَيْه أنه أحد العلماء النابهين الذين فهموا الإعجاز القرآني فهما خاصا، وكرسوا حياتهم لدراسته، حيث صوّر هذا الإعجاز تصويرا دقيقا، ينمّ عن ملكة حساسة، وعقلية نفاذة، فأوضح معالمه، وأبرز دقائقه، بأسلوب تحليلي أدبي، يتسم بالعمق والدقة والموضوعية معا. ومن هنا اعترف الباحثون المُحْدَثُون بأن بحوثه حول الإعجاز القرآني تُعدّ انتقالا كبيرا في التفكير والبحث، وكشفا دقيقا لأسرار هذا الإعجاز.
لقد ركز الجرجاني في بحوثه على موضوع "النظم"وجعله المحور الأساسي الذي يدور حوله كل موضوع، وينتهي إليه كل طريق، لذلك كان النظم - من وجهة نظره - هو الوجه الوحيد المشرق للإعجاز القرآني.. أما بقية الأوجه التي توصل إليها الباحثون والعلماء السابقون، وسجّلوها في مصنفاتهم ورسائلهم فلم يعرها التفاتا، ولم يعطها اهتماما.
مهَّد الجرجاني لإثبات وجهة نظره هذه بمقدمة هامة، جعلها فاتحة كتابه "دلائل الإعجاز"بيّن فيها أولا ماهية النظم وحقيقته، ثم كيف يحصل، وما هي أسبابه وروابطه.. فيقول:
"معلوم أن ليس النظم إلاّ تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض". ثم يفصح عن مضمون معنى الكلم بقوله:"والكلم ما هو إلا اسم وفعل وحرف. وللارتباط بين هذه الأقسام الثلاثة طرق معلومة لا تعدو ثلاثة أحوال.. تعلق اسم باسم، واسم بفعل، وتعلق حر ف بهما"[٤] .
ثم ينتقل الجرجاني بعد ذلك إلى توضيح هذه الأحوال الثلاثة، فيقدم لنا مجموعة من الشواهد لكل منها، ويستعرض بعض الآثار الأدبية التي توضح مقصوده، وتبيّن مفهومه لمعنى الكلم.. وهو يرمي من وراء هذا كله إلى توضيح الفكرة التي توصل إليها وهي ((أن تأليف الكلام ونظمه لا يتعدى هذه الأحوال الثلاثة، سواء كان هذا الكلام وحيا أو كلام بشر)) .