والنظرة العميقة لتاريخ العبيديين تدلنا بوضوح على أنّ نِحلَتَهُم إنما قامت على الهدم والإلحاد, ثم تأليه ملوكهم, من أول عبيد الله إلى آخرهم, غاية ماهنالك أنّ أوائلهم قد اضطروا إلى إخفاء غرضهم السيئ حقبة من الزمن, فأخرّوا إعلان الألوهية إلى أجل حتى لا ينكشف مستورهم, تماما كما يفعل الشيوعيون والإشتراكيون من تقسيم دعوتهم على مراحل ثلاث أو أكثر, حسب الظروف والمُلابَسات.
وبالرغم من هذا التستر ومن إحكامهم كتمان الأمر كانت نواياهم تبدو سافرة, الفينة بعد الفينة, ففي عهد القاسم بن عبيد الله المهدي ثاني خلفائهم أصدر هذا القاسم سنة (٣٢٦) تعليمات بسب الصحابة عامة, والشيخين العظيمين خاصة, فقامت ضده ثورة عارمة قادها أبو زيد مخلد بن كيراد الملقب بـ (صاحب الحمار) , وقد ظلّت مستعرة عشر سنوات, وهلك القاسم وهي قائمة, وقد أخفى ابنه المنصور خبر وفاته حتى لا يتقاعس ضده, ولم يتمكن المنصور من إخمادها إلا بعد عناء كبير.
فعلَّمتهم هذه الثورة أنّ الأوان لم يئن لنشر ترّهاتهم حتى إذا جاء المعزّ وأنشأ القاهرة أوعز إلى شاعره ابن هانئ الأندلسي بالتنويه بتأليههم.
فمن أبياته المشهورة في هذا الصدد:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فافعل أنت الواحد القهار
وقد ظن بعض السذّج أنها مجرّد غلو من ابن هانئ, ولكن إذا علمت أنه دأب على هذا الدرب تيقّنت أنه طريق مرسوم, اسمع إليه حين يصف المعزّ بصفات ذي الجلال سبحانه:
ندعوه منتقما عزيزا قادرا
غفار مويقة الذنوب صفوحا
وفي قصيدة أخرى يقول في المعز:
فيا رازقا من كفه نشأ الحيا
وإلا فمن أسرارها نبع البحر
وعنده من هذا القبيل شواهد كثيرة جدا.
وقد ثبّت المعزّ أركان دولته بعد اتخاذ القاهرة عاصمة له, وجاء ابنه العزيز فضمّ إليها الشام والحجاز.