وقد أثبتنا - فيما سبق - أن المثبتة ليسوا بمشبهين ولا مجسمين، بل طريقتهم وسط بين التشبيه والتعطيل، كما وضحنا آنفاً، وإذا كانت المشبهة قد غلت في إثبات صفات الله فأثبتوها معتقدين أنها صفات كصفات المخلوقين، بدعوى أنهم لا يعقلون من صفات الله إلا كما يعقلون صفات المخلوقين، فقدرة الله عندهم كقدرة المخلوقين, وإرادته كإرادتهم, واستواؤه كاستوائهم، كذلك محبته ورضاؤه، غلت المعطلة في التنزيه من الطرف الآخر فنفت وعطلت صفات الله تعالى أو بعضها، بدعوى التنزيه معتقدين أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه فأهل السنة والجماعة فقد هداهم الله إلى سواء السبيل ووفقهم فسلكوا مسلكاً وسطاً، فأثبتوا ونزهوا - أثبتوا لله ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال - وجميع صفاته كمال - إثباتاً بلا تشبيه أو تمثيل في ضوء قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد أثنى أبو الوليد على هذه الطريقة في غير ما موضع في بعض كتبه [١٠] ولكنه يراها أنها إنما تناسب الجمهور فقط دون العلماء فإنهم لا يقفون عندها، بل عليهم أن يغوصوا في بحار الفلسفة، فيكشفوا حقائق لا يدركها الجمهور، مع التكتم [١١] الشديد وعدم التصريح بتلك الحقائق أمام الجمهور، فلو التزم أبو الوليد طريقة معينة في إصدار الأحكام على الناس لسهل علينا أن نصغي إلى أحكامه ثم ننقاشه، ولكنه صعب المنال وكثير التقلب, فبينما تراه يتحدث في باب الأسماء والصفات حديث سلفي مثبت الصفات واقف على ظاهر الشريعة فإذا هو يخطب على منصة أهل الكلام فيؤول وينفر عن الإثبات، ولو عرّجت على نادي الفلاسفة لوجدته في طليعة الحكماء الذين يعيشون في مخيم الغموض ويضربون في بيداء الأوهام والخيال، ولا تكاد تفقه كثيراً مما يقولون، ولو مررت بمجموعة الفقهاء لرأيته في وسطهم يقارع الحجج بالحجج فيؤصل ويفرع، وربما دخل مجالس المحدثين ليتشبه بهم، على حد قول القائل: