أدرك مسلمو الماضي هذه المعاني العجب، التي في أول آيات الصوم، فتتبعوا بعد ذلك متلهفين بقية آياته المنظمة لأدائه، حتى قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(البقرة:١٨٧) ، فأصبح شهر رمضان عندهم أحب شهورهم، وربيع سنتهم، وخير ما يعيشون من أعمارهم، يتعجلون قدومه ليسعدوا بعز الذكر الذي نزل فيه، وليشمتوا بعدوهم الذي يكبل فيه وليزيدوا من سخاء أكفهم لستزيدوا من مثوبة ربهم وسعة فضله، ويستعيدوا بشهرهم أمجاد نصرهم لما سحقوا فيه عدوهم، فبقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقعت فيه اثنتا عشرة ملحمة، اثنتان فاصلتان قادهما بنفسه، بدر والفتح، والباقي سرايا سيرها وحدد وجهتها وعين قادتها، ثلاث منها بقيادة علي، واثنتان بقيادة خالد، وقاد كلاً من الخمس الباقية، عبد الله بن عُتَيْك، وعبد الله بن رواحة، وأبو قتادة، وعمرو بن العاص، وسعد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، صوام الماضي كانوا يتعجلون شهر الصوم ليجعلوا منه لجام المتقين، فتصبح شهور الفرج لديهم ذليلة، ورغبة البطن معافة، والنظرة في دنياهم زهيدة، يتعجلون قدومه ليصوموه ليلاً ونهاراً، ففي النهار صاموه مادة معنى, لما صوّموا معهم آذانهم وأبصارهم وألسنتهم عن اللغو والتأثيم، وفي الليل جعلوا الصوم عن النوم، فتجافت جنوبهم عن مضاجعهم قياماً ودعاء وبكاء، وكان أكثر ما تفيض به أعينهم من الدمع عند وداعه في عشرته الأخيرة، يتحسرون لفراق شهرهم الحبيب، فهو موسم أرواحهم وواصلهم بربهم، لهذا منحو الفرحتين، وجنوا شهي الحسنيين، تلك فكرة ضئيلة عن رمضان مع مسلمي الماضي، وما رمضان مع مسلمي اليوم؟!!