ومن الحكمة البالغة أن بدأ بالدعوة سرا حتى لا يفجأ القوم بها، خاصة وهم غارقون في جهلهم يتخبطون في غيهم، فتبعه أفراد قلائل، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ثم جهر بالدعوة إلى الله؛ فدخل في الدين خلق كثير، دخلوا الإسلام عن بينة من أمره، واستمعوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، فخالطت أنوار الإيمان قلوبهم، لا سيما وهم متعطشون إلى ما ينقذهم من ظلمات الشرك ويهديهم إلى صراط مستقيم؛ فصادف الإسلام قلوبا مستعدة متهيأة فتمكن فيها كل التمكن، وجرى الإيمان فيهم مجرى الدم في عروقهم، ذلك أنهم عرفوا من النبي عليه السلام أن هذا الدين هو طريق سعادتهم ومعقد عزهم وسبب نهضتهم وتقدمهم، فعقدوا عليه خناصرهم، وأحبوا رسول الله حبا يسمو على الأبناء والآباء، وانكبوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدثهم في بنائه العظيم بعد القرآن الكريم، كما علموا أمر الله باتباعها، وتحذيره الشديد من مخالفة أمره، اعتقدوا هذا بقلوبهم ووضعوه نصب أعينهم.
ملكت الآيات والأحاديث على الصحابة مشاعرهم، وسيطرت على ألبابهم وحواسهم، وأفسحت قلوبهم حبا لله ورسوله عليه السلام، وألهبت نفوسهم نشاطا نحو العلم والعمل؛ فلم يدخروا وسعا في حفظ الأحكام والسن.
وإلى جانب هذه الحمية الدينية، استعداد فطري ونشاط طبيعي هو استعداد الحافظة ونشاط الذاكرة وسرعة الخاطر ووفرة الذكاء وكمال العبقرية.
فالصحابة عرب خلص أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية، فقد حفظوا أنساهم ومناقبهم وأشعارهم وخطبهم، وكثيرا ما كانت تقع بينهم المفاخرة المفاخرة بالأنساب والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم، وأخبار خصومهم، مما يرفع من شأن أعدائهم.