وقد اختلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السابق، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث صحيفة علي رضي الله عنه [٤٦] ، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصاب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو ابن العاص كان يكتب ولا أكتب.
وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ [٤٧] ؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه، وقيل: النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه، والإذن في غيره [٤٨] .
قال ابن القيم:"قد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، وقد صحّ عن النبي أنه قال لهم في مرض موته: "إئتوني اللوح والدوار والكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا"وهذا كتابة كلامه بإذنه"اهـ[٤٩] .
وقد قال ابن الصلاح:"ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة". ولقد صدق رحمه الله [٥٠] .
عصر التابعين وتابعيهم:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أن تجد كثيرا منهم يتساهلون في أمرها، يرخصون بها أو يحضون عليها، ونجدها أصبحت أمرا رسميا في عصر أوساطهم.