ولعل هذا الشعور هو الذي خالط نفس بلال بن رباح - رضي الله عنه - بعد هجرته إلى المدينة حينما كان ينظر إلى السماء ويقول:"لا شك أن سماء مكة أجمل من هذه السماء، وأن هواء مكة أنقى من هذا الهواء"[١] .
ويزداد حنينه إلى الوطن، فيضطجع في فناء البيت، ويرفع عقيرته قائلا بعد أن تفارقه الحمى:
بفخ وحولي إذخر وجليل
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وهل يبدون لي شامة وطفيل [٢]
وهل أردن يوما مياه مجنة
إن حب الوطن قد أدى ببلال أن يعود بخياله إلى مكة، وأن يشعر بحنين زائد إلى أحيائها التي تربى بينها، وقضى شبابه بين ربوعها، فتمنى أن يقضي فيها ولو ليلة، ويمتع ناظريه برؤية جبالها ونباتاتها.
ويعلم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم يلم بلالا على ما قال، ولكنه يرق لحال المهاجرين، ويقدر عواطفهم، ويدعو الله- عز وجل- أن يثبتهم على هجرتهم وأن يحبب إليه المدينة كحبهم مكة أو أشد [٣] .
أفبعد هذا يقول قائل إن الهجرة فرصة للراحة من عناء التعذيب، أو وسيلة ترويح عن المضطهدين؟
مكة البلد الأمين:
ولد الرسول في مكة، وقضى شبابه في ربوعها، وتزوج سيدة نسائها، وكان فيها محبوبا أثيرا، كل أهلها يقدره ويجله، ويرون فيه جميعا أنموذجا للشباب الطموح، حيث كان يترفع عن التافه من الأمور، ويربأ بنفسه عن سفسافها.
وكانت مكة تتميز عن قرى الجزيرة كلها بقدسية لم تطمع فيها قرى تفوقها جمالا وخصوبة، وتمتاز بنسيمها العليل، وحدائقها الغناء.
إن قرى الجزيرة مهما تفوقت في الخصائص المادية لن تبلغ مبلغ مكة في منزلتها الروحية، فقد اختارها الله - تبارك وتعالى- لتكون محل بيته العتيق، وجعلها حرما آمنا، ليس للإنسان فقط ولكن الإنسان والحيوان والطيور والنبات، ففي رحابها يأمن الخائف، وفي كنفها يأنس المستوحش، وبين جنبيها يجد الحائر السكينة.