وكانت الظاهرة الغالبة في تلك الفترة المعاصرة للجاحظ، هي الاحتفال بالمعنى، وكدّ الذهن له، والجري وراءه... إذ كانت آثار العقل اليوناني في الفلسفة، والعقل الهندي والفارسي في الحكمة، وضرب الأمثال، قد أخذت تنتقل إلى اللغة العربية، وتؤثر في النفس هذا التأثير الذي أقام المذاهب الكلامية والفلسفية عند كثير من الجماعات والأفراد... وكان من ذلك أن جرى الناس وراء المعاني يلتقطونها في أي محمل من محامل اللفظ، وعلى أية صورة من صوره... حتى لقد كاد ذلك يذهب بكثير منهم إلى الخروج على الأساليب العربية والذوق العربي [٣٩] .
لهذا وقف الجاحظ في بوجه هذا التيار، وتصدى له، ودفع به إلى الوراء بعيدا... فانحسر شيئا فشيئا، وجعل أولئك الذين كانوا قد ركبوا هذا المركب لاصطياد المعاني، يعودون رويدا إلى الساحل، حيث يأخذون من المعاني ما تنال أيديهم، وما تبلغ أفكارهم.
رأي الجاحظ
والرأي الذي دعا إليه الجاحظ، هو أن البلاغة نظم وصياغة... فمن أخطأه حسن النظم، وحبكة الصياغة، فقد أخطأت كلامه عناصر الحياة، وجمدت فيه عروق البلاغة والبيان... وذلك أن المعنى الذي يخرج في صورة من النظم المضطرب ومن الصياغة المختلطة، هو معنى شأنه ذميم.
ويشهد عبد القاهر الجرجاني آثار هذه المعركة التي كانت دائرة بين اللفظ والمعنى، ويراها في مخلفات الجاحظ الذي كان ينتصر للفظ، من جهة، وفي مخلفات من كانوا يقفون ضده... في الجهة الأخرى.
ويقف "عبد القاهر"إلى جانب رأي الجاحظ، ويقفو أثره، ويتخذ من هذا الرأي حجته على وجه الإعجاز في القرآن.
ولا تحسبن أن "الجاحظ"يهون من شأن المعنى، أو يغمض من قدره... وكيف وهو رجل راجح العقل ... وفير العلم والحكمة والأدب؟