وليس معنى هذا التهور في التبليغ وعدم مراعاة الظروف التي يوجد فيها الداعية، ولكن المقصود انتهاز الفرصة المواتية وعدم تضييعها، واستعمال الأسلوب المناسب لكل وضع يعيش فيه الدعاة، وهذا هو تفسير الآية الكريمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[٥٨] .
والقرآن الكريم يحكي لنا قصة داعية أدخل السجن ظلما ولبث في السجن بضع سنين، ولم تحل الظروف القاسية التي يعيش فيها بينه وبين تبليغ الدعوة، ولم تكن أسوار السجن الرهيب لتصرفه عن بيان الحق وإعلانه، لقد وجد في السجن من ينصت إليه، فليكن السجن ميدان دعوته، وأحس من المساجين ميلا إليه وشغفا به فليكن هؤلاء هم البذور التي يستنبتها فيحصد منها الخير الوفير.
وجهر يوسف - عليه السلام - بالتوحيد وهو في أعماق السجن، ودعا إليه من حوله حين واتته الفرصة ولم يضيعها؛ {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[٥٩] .
٣- ليس للدعوة أسلوب معين يجب اتباعه عند التبليغ بل لكل بيئة ما يناسبها، ولكل عقلية خطاب، ولكل مقام مقال، ولأجل هذا قال علي - كرم الله وجهه -: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ [٦٠] .
وأسلوب القرآن الكريم في الدعوة لم يلتزم خطا واحدا، ولم يأت على وتيرة واحدة، بل خاطب المؤمنين بأسلوب، وخاطب أهل الكتاب بأسلوب آخر، وخاطب الملحدين المشركين بأسلوب غير الأسلوبين السابقين [٦١] .
وكان اختلاف الأسلوب مع كل جماعة لا لمجرد التنويع والتظرف في الحديث، ولكن كان لاختلاف الوسائل المقنعة لكل جماعة من الجماعات السابقة؛ فما يناسب المؤمنين لا يناسب المعاندين، وما يقنع أهل الكتاب قد لا يقنع الملحدين.