للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله ﴿فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده وجحده، وعامله معاملة من لا يعرفه، فقد أخطأ الطريق الواضح، وعدل عن الهدى إلى الضلال، ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده، فقال ﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ﴾ أي فسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، ﴿وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً﴾ أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ﴾ أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذا بالله من ذلك، ﴿وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها (١)، وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة، فلا قلوب سليمة، ولا فطر مستقيمة، ولا أعمال قويمة، ﴿وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ﴾ يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم، ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة (٢): هذه الآية ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ منسوخة بقوله ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الآية.

وقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ﴾ أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ، ومناصرته، ومؤازرته، واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق، ونقضوا العهود، ولهذا قال تعالى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، فكل فرقة تحرم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ثم قال تعالى: ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب ﷿ وتعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا، من جعلهم له صاحبة وولدا، تعالى الواحد


(١) تفسير الطبري ٤/ ٤٩٧.
(٢) تفسير الطبري ٤/ ٤٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>