للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَلَّمَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَتَهُ، فَقَالُوا: مَا تُخَوِّفُنَا يَا مُحَمَّدُ، نَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، كَقَوْلِ النَّصَارَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ عَنِ السدي في قول الله وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أما قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [آل عمران: ٢٤] ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى إِسْرَائِيلَ أن ولدك بكري مِنَ الْوَلَدِ، فَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ «١» ، فَيَكُونُونَ فِيهَا أَرْبَعِينَ ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مُنَادٍ: أَنْ أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ وَلَدِ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَجُوهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٩]]

يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا أَهْلَ الْكِتَابِ مِنَ اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، الَّذِي لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ هُوَ الْمُعَقِّبُ لِجَمِيعِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ:

عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ مَا بَيْنَ إِرْسَالِهِ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ كَمْ هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَقَتَادَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: كَانَتْ سِتَّمِائَةِ سَنَةً.

وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعُمِائَةٍ وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ رَفْعِ الْمَسِيحِ إِلَى هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعُمِائَةٍ وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ هو القول الأول، وهو أنها سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ أَرَادَ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ، وَالْآخَرَ أَرَادَ قَمَرِيَّةً، وَبَيْنَ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَبَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى في قصة أهل الْكَهْفِ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف: ٢٥] أي قمرية لتكميل ثلاثمائة الشَّمْسِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ آخَرِ أَنْبِيَاءِ بني إسرائيل وبين محمد خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ بَنِيَ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لأنا ليس بيني وبينه نبي» «٢» وهذا فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بُعِثَ بعد عيسى نَبِيٌّ، يُقَالُ لَهُ خَالِدُ «٣» بْنُ سِنَانٍ، كَمَا حكاه القضاعي وغيره، والمقصود أن الله بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فترة


(١) عبارة الطبري: «أن ولدا من ولدك أدخلهم النار.
(٢) صحيح البخاري (أنبياء باب ٤٨) .
(٣) هو خالد بن سنان العبسي. كان في أرض بني عبس يدعو الناس إلى دين عيسى. قال ابن الأثير: من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يدينون بالمجوسية، فأخذ خالد عصاه ودخلها ففرقها وهو يقول: «بدّا بدّا، كل هدي مؤدّى، لأدخلنها وهي تلظّى، ولأخرجن منها وثيابي تندّى» وطفئت وهو في وسطها. قال الزركلي: هي النفط لا ريب. وهناك روايات بأن النار كانت تخرج من بئر. فتأمّل. (الأعلام ٢/ ٢٩٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>