وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدا عن ذلك، فإذا أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال «أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم» فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا، وآخر، فقال لهما النبي ﷺ«أنتما أعلم من قبلكما» فقالا: قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي ﷺ لهما «أليس عندكما التوراة فيها حكم الله» قالا: بلى، فقال النبي ﷺ«أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد، كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي ﷺ «هو ذاك» فأمر به فرجم، فنزلت ﴿فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه (١). ولفظ أبي داود عن جابر، قال:
جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال «ائتوني بأعلم رجلين منكم» فأتوه بابني صوريا، فنشدهما «كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟» قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، رجما، قال «فما يمنعكم أن ترجموهما؟» قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل، فدعا رسول الله ﷺ بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله ﷺ برجمهما، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلا، ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا.
فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله ﷺ، حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله ﷿ إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك، ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله ﷺ إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هذا﴾ أي: الجلد والتحميم، فخذوه،
(١) سنن أبي داود (حدود باب ٢٥) وسنن ابن ماجة (حدود باب ١٠)