للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي أخلصت ديني، وأفردت عبادتي ﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾ أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ﴿حَنِيفاً﴾ أي في حال كوني حنيفا، أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال ﴿وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير: من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ما يقتضي أنه مقام نظر، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ الآية (١).

وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب (٢) الذي ولدته فيه أمه، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه، فأمر بقتل الغلمان عامئذ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم، وتركته هناك، وذكر أشياء من خوارق العادات، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.

والحق أن إبراهيم ، كان في هذا المقام مناظرا لقومه، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية، التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم، الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة، وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس، ثم القمر ثم الزهرة، فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين، لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا، ولا تملك لنفسها تصرفا، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة، لما له في ذلك من الحكم العظيمة، وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال، ومثل هذه لا تصلح للإلهية، ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم، ثم انتقل إلى الشمس كذلك، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع، ﴿قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها


(١) تفسير الطبري ٥/ ٢٤٤ - ٢٤٥.
(٢) في الأثر عن ابن إسحاق (تفسير الطبري ٥/ ٢٤٥) أن أم إبراهيم ولدته في مغارة.

<<  <  ج: ص:  >  >>