للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهُوَ تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ لِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال «مَلْعُونٌ مِنْ سَبِّ وَالِدَيْهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟

قَالَ «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أمه» «١» أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقوله كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أَيْ وَكَمَا زَيَّنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ حُبَّ أَصْنَامِهِمْ، وَالْمُحَامَاةَ لَهَا وَالِانْتِصَارَ، كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ عَلَى الضَّلَالِ عَمَلَهُمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ التَّامَّةُ، فِيمَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ أَيْ مَعَادُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، أَيْ حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة وخارقة لَيُؤْمِنُنَّ بِها أَيْ لَيُصَدِّقُنَّهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي قل: يا محمد هؤلاء الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ، تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ، إِنَّمَا مَرْجِعُ هَذِهِ الآيات إلى الله، إن شاء جاءكم بها، وإن شاء ترككم.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٢» : حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قريش، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أي شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ» ، قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُمْ «فَإِنْ فَعَلْتُ تصدقوني؟» قالوا:

نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: مَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أُرْسِلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بل يتوب تائبهم» فأنزل الله تعالى:

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.

وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩] الآية.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قيل المخاطب بما يشعركم


(١) صحيح مسلم (إيمان حديث ١٤٥) ومسند أحمد ٢/ ١٦٤، ١٩٥، ٢١٤، ٢١٦ وسنن الترمذي (برّ باب ٤) .
(٢) تفسير الطبري ٥/ ٣٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>