للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٣ الى ١٦]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)

مِنْ هَاهُنَا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ وَهُمُ الشَّبَابُ، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا فِي دِينِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لله تعالى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا، وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَهَكَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شبابا، وقال مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ يَعْنِي الْحَلَقَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ، فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ أَيْ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَزِدْناهُمْ هُدىً اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَزِدْناهُمْ هُدىً كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [مُحَمَّدٍ: ١٧] وَقَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التَّوْبَةِ: ١٢٤] وَقَالَ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْحِ: ٤٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِينِ المسيح عيسى ابن مريم، فالله أَعْلَمُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ بالكلية، فإنهم لَوْ كَانُوا عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ لَمَا اعْتَنَى أَحْبَارُ الْيَهُودِ بِحِفْظِ خَبَرِهِمْ وَأَمْرِهِمْ لِمُبَايِنَتِهِمْ لَهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ خَبَرِ هَؤُلَاءِ، وَعَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَعَنِ الرُّوحِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مَحْفُوظٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ تَعَالَى:

وَصَبَّرْنَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْمِهِمْ وَمَدِينَتِهِمْ وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ وَكَانَ لَهُمْ مُجْتَمَعٌ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ، وَيَذْبَحُونَ لَهَا، وَكَانَ لَهُمْ مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ دَقْيَانُوسُ،. وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ ذَلِكَ، وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا لَا يَنْبَغِي إلا الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قَوْمِهِ وَيَنْحَازُ مِنْهُمْ وَيَتَبَرَّزُ عَنْهُمْ نَاحِيَةً.

فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ مِنْهُمْ وَحْدَهُ أَحَدَهُمْ، جَلَسَ تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ فَجَاءَ الآخر فجلس إليها عِنْدَهُ، وَجَاءَ الْآخَرُ فَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، وَجَاءَ الْآخَرُ فجلس إليهم، وَجَاءَ الْآخَرُ وَجَاءَ الْآخَرُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>