للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَعْلَمُ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وإذا كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار، والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية المسحة.

فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية، فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مردويه بإسناده مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ، وَمَعْنَى هَذِهِ الصِّيغَةِ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ مُعَارَضٌ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْ أَصْحَابِ الموازنة والإحباط، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُسْلَكُ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، والله أعلم بالصواب، وبتقدير دخول القاتل في النَّارِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، أَوْ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ حَيْثُ لَا عَمَلَ لَهُ صَالِحًا ينجو به فليس بمخلد فِيهَا أَبَدًا، بَلِ الْخُلُودُ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كان في قلبه أدنى مثقال ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ «كُلُّ ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» فعسى لِلتَّرَجِّي، فَإِذَا انْتَفَى التَّرَجِّي فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لا تنفي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْقَتْلُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا فالنص أن الله لَا يُغْفَرُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الآدميين، وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردها إليهم وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَالْمَقْذُوفِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إِلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فلا بد من المطالبة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يَكُونُ لِلْقَاتِلِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تُصْرَفُ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ بَعْضُهَا، ثُمَّ يَفْضُلُ لَهُ أَجْرٌ يَدْخُلُ به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله مِنْ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ فِيهَا ونحو ذلك والله أعلم.

ثم لقاتل الْعَمْدِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامٌ فِي الْآخِرَةِ، فأما فِي الدُّنْيَا فَتَسَلُّطُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الْإِسْرَاءِ: ٣٣] ، ثُمَّ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَعْفُوا، أَوْ يَأْخُذُوا دِيَةً مُغَلَّظَةً أَثْلَاثًا، ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذْعَةً، وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً «١» ، كَمَا هو مقرر في كتاب الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامٌ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كفارة الخطأ، على


(١) الخلفة: الحامل من النوق. وقد تقدم شرح معنى الحقة والجذعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>