في ناجر برد الشام وريفُهُ
حَنَّتْ ركابي بالعراق وشاقها
في صنفتيه تلاعه وكهوفُهُ
ومدافع الساجور حيث تقابلت
بعد إنشادنا هذه الأبيات ذات الكلمات المتخيَّرة الرنَّانة، والعبرات المنسَّقة البديعة والانفعالات القوية الخافقة من القصيدة الفائية التي اهتز الفتح لها وطرب، نعود فنقول: وممن تَنَبَّه لناحية الإطراب في شعره، ممدوحه الخليفة المعتز، فقد روى البحتري قوله له [٢] : "يا وليد ما أنشدتني قطُّ إلا أطربتني"، ومن القدماء الذين تنبهوا لناحية الإطراب في شعره أبو بكر الخوارزمي، كما يفهم من قول الثعالبيّ عنه [٣] : "ومن أطرف شعره وأرقه وألطفه قوله: -وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: لا تنشيدونيهما فأرقص طربًا ...
مَشَابِهُ فيك بَيِّنَةُ الشُكُولِ
يذكرنيك والذكرى عناءُ
وبرد الماء في راحٍ شمولِ
نسيم الروض في ريحٍ شمال
وهناك طريفة أرويها هنا، لما فيها من الدلالة على ما أنا بصدد تأكيده من ناحية الإطراب في شعر البحتري قال [٤] :
.. أخبرنا ابن حبيب المذكر قال: دخلت دار المَرْضَى بنيسابور فرأيت شابًّا من أبناء النعم يقال له أبو صادق السكري، مشدودًا وهو يجلب فلما بصر بي قال: أتروي من الشعر شيئًا؟ قلت: نعم، قال: من شعر مَنْ؟ قلت: من شعر من شئت، قال: من شعر البحتريّ، قلت: أيّ قصيدة تريد؟ قال:
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
ألمع برق سرى أن ضوء مصباح
فأنشدته القصيدة فقال: أفأنشدك قصيدة؟ قلت: نعم، فأخذ في إنشاء قصيدته:
وأقِلاَّ لا ينفع الإكثارُ
أقصرًا إنَّ شأني الأقصارُ
أو تناءت منَّا ومنكِ الدِّيارُ
إن جرى بيننا وبينك عتْب
مقيم والدموع الذي شَهِدْتِ غِزارُ
فالغليل الذي عَهِدْتِ
فقفز وجعل يرقص في قيده ويصيح، إلى أن سقط مغشيًا عليه.