للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذه الحادثة الطريفة على الأقلِّ مما يستأنس به في الدلالة على مدى ما في شعر البحتري من قوة الإطراب، والحقُّ أنَّ البحتري نفسه كان شديد الإحساس بناحية الإطراب في شعره شديد الاحتفال لها، يدلك على صِحَّة ما نقول افتخاره بها في غير ما موضع من شعره مثل قوله:

فيكم إذا أنشدت قام امرؤ يستعيدها

وكم لي من محبوكة الوشي

أي يهز الطربُ سامعها فيقوم طالبا من الشاعر إعادتها، لقد كان شعره يَهُزُّ كلَّ السامعين، حتى الخلفاء والملوك الذين عرفوا بالهيبة والوقار، كان يطربهم ويهيجهم فيتخرقون في العطاء ويصيحون بالثناء كما يفهم من قوله:

فيحمد راويها ويُحْبَى قئولها.

يهيِّج إطراب الملوك استماعُها

وهذا مما يدلك على شدة إحساس شاعرنا بناحية الإطراب في شعره ما عرف عنه من عادة الترنم بشعره وإنشاده إياه، مع الإتيان بأشياء غريبة ساعة إنشاده تدلُّ على إعجابه بشعره وطربه به، حيث كان يتلفت يمنةً ويسرةً حين إنشاده ويتفل، ويصيح في الناس: ألا تسمعون؟

وقد روى [٥] المعرِّي أنَّ أبا عبادة "كانت قدماه قدمي طاووس" [٦] .

والواضح فيما نرى -أن يكون المقصود بهذا الوصف حركاته ومشيه زهواً وطرباً ساعة إنشاده شعره.

أضف إلى ما مضى أن البحتري انفرد بعادة لم يشركه فيها أحد من الشعراء حسب اطلاعنا وهي أنه كان إذا فرغ من إنشاد القصيدة أعاد البيت الأول منها، كما يدل عليه ما جاء في الأغاني [٧] : " ... أن البحتري أنشد المتوكل وأبو العنبس الصيمريّ حاضر قصيدته:

وبأيّ طرف تحتكم

عن أيّ ثغر تبتسم

إلى آخرها، وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به فإذا فرغ من القصيدة ردَّ البيت الأول فلما رده بعد فراغِه منها وقال:

وبأي طرف تحتكم

عن أي ثغر تبتسم

قال أبو العنبس الخ".