للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يهمنا من هذه الرواية أنها تثبت العادة التي ذكرنا انفراد البحتري بها وهي ردُّ مطلع القصيدة بعد الفراغ منها، وهذا كما ترى يدل على طرب واندفاع في الإنشاد يمضي به الشاعر من أول القصيدة حتى ينتهي به عند إعادة البيت الأول منها يعيده على السامعين من شدة طربه به.

والحق أن هذه العادة التي امتاز بها البحتري وهي رد البيت الأول من القصيدة لها دلالة نقدية قيِّمة تنبه لها الدكتور عبد الله الطيب حيث وضح أن فيها دلالة قوية على الوحدة الفنية في القصيدة العربية، كأنَّ الشاعر حين يقرن في إنشاده أول القصيدة بآخرها فلا يختل بهذا شيء من بناء القصيدة ينبهك على أن قصيدته بناء فني كامل تنتظمه وحدة فنية وهذا كما ترى عكس ما لهج به بعض الكتبة المحدثين من نفي الوحدة الفنية عن القصيدة العربية فشتان ما بين صنيعهم وصنيع الدكتور عبد الله إذ في صنيعه شجاعة الإحساس بقيمة اللغة العربية وآدابها.

هذا ومما لا ريب فيه أن ناحية الإطراب والنغم التي كاد البحتري يكون فيها الشاعر المجلى من أهم مقومات الشعر العربي بل إنها الركيزة الثابتة له التي عرفها أعداء اللغة العربية فحاولوا هدمها فكانوا كما قال الأعشى:

فلم يَضِرْها وأوهى قَرنه الوَعِلُ

كناطح صخرة يوماً ليُوهِنَهَا

عَدِّ عن هؤلاء وأنشد الناس قول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:

إنَّ الغناء لهذا الشعر مِضْمَارُ

تَغَنَ في كل شعر أنتَ قائله

وفي هذه الدلالة الواضحة على مكان الوزن والعروض والقافية والنغم في الشعر العربي وهي الناحية التي فاز شاعرنا البحتري منها بأكثر نصيب. هذا ما كان من أمر الحديث عن ناحية الإطراب في شعره.

أما ناحية الانفعال الخافق في شعره، فإنها أوضح من أن يدل عليها وهو معروف بالإجادة فيها كما ذكر هذا الدكتور عبد الله الطيب فقال [٨] :

"والبحتري رحمه الله كان يحسن تصوير الانفعالة الخافقة".