فابن رشيق الذي أنصف المحدثين وشعرهم في مثل قوله:"فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع ومعرفة الصواب، على أنه أرق حوكاً وأحسن دياجة"[١٩] . نجده بعد ذلك يشكك في المخمسات والمسمطات، وينسبها إلى ضعف الشاعرية فيقول:"وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات ويكثرون فيها، ولم أرى متقدماً حاذقاً صنع شيئًا منها، لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه، ما خلا امرئ القيس في القصيدة التي نسبت إليه -وما أصحها له- وبشار بن برد، قد كان يصنع المخمسات والمزدوجات عبثاً واستهانة، وبشر بن المعتمر، فقد أنشد الجاحظ له أول مزدوجة، ووضع ابن المعتز قصيدة في ذم الصبوح، وقصيدة في سيرة المعتضد، ركب فيها هذا الطريق، لما تقتضيه الألفاظ المختلفة الضرورية، ولمراده التوسع في الكلام، والتملح بأنواع السجع"[٢٠] .
مما سبق نصل إلى النتائج التالية:
أولاً: أن مفهوم الحداثة كان عند بعض النقاد لا يتعدى معناه اللغوي البسيط، أي الشيء الجديد، وبناء على هذا المفهوم رفض هؤلاء النقاد كل جديد يظهر في عصرهم دون أن يميزوا بين الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، والجديد الذي هو نسخة عما قبله.
ثانياً: أن مفهومها تطور عند نقاد آخرين وأصبح يعني: الجديد الذي يحمل سمات فنية جديدة، وهذا المفهوم هو أساس مفهوم الحداثة في عصرنا الحاضر بعامة.
ثالثاً: أن النقاد القدماء لم يهتموا بمصادر السمات الفنية الجديدة، ولم يربطوا بينها وبين الثقافة الوافدة في ذلك العصر.
رابعاً: أن قضية الحداثة برمتها -كانت في النقد القديم- قضية مضخمة شغلت جزءًا أكبر من حجمها، واستهلكت من الجدل والنقاش أضعاف التجديد الذي جاء به المجددون.