وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية.
وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية.
وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية.
وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين.
وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين"[١]
وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين.