ففي بداية هذا العصر بدت بوادر التغير في الحياة الراكدة، ورحل جنود الحملة الفرنسية وعلماؤها من مصر، بعد أن هزوا المجتمع المصري من أعماقه. واستطاع محمد على باشا بعد سنوات قليلة أن يبدأ نهضة واسعة، ظهرت آثارها في توسعه العسكري، والحركة العمرانية، والبعثات الدراسية، وتشجيع الترجمة والطباعة، ثم تابع النهضة ابنه إسماعيل- الذي خلف عباساَ وسعيداً-. وكان هذا الحاكم مفتوناً بمظاهر الحياة الأوربية، فعمل على نقلها إلى مصر، وصرف في سبيل ذلك أموالاً طائلة، وفي الوقت نفسه، أخرجت المطابع عدداً من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين، وأصبح في مقدور المثقفين أن يقفوا على عيون الشعر العربي، كما نشرت أمهات كتب التراث ككتب الجاحظ وابن المقفع وابن العميد وابن خلدون غيرهم. وبدأ النثر يتخلص من قيود السجع والتكلف، في كتابات رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من كتاب العصر، فكان أسبق من الشعر إلى التحرر.
وأما الشعر فكان في حالة من السقم تقارب الموت. وكانت تمثله نماذج هزيلة، ليس فيها إحساس صادق، ولا تعبير فني ناضج، وتغطى ركاكتها،في كثير من الأحيان، بألوان من البديع المصطنع تبدو مثل زركشة على كفن، وتعبر بصدق عن الحياة الراكدة في أواخر العهد العثماني.
وقد حاول بعض الشعراء- أمثال: محمود صفوت الساعاتي، وعلي أبي النصر، وعبد الله فكري، وعائشة التيمورية، أن يتحرروا من الأسلوب المتخلف، ولكنهم لم يبتعدوا عنه كثيرا، وكان مقدورا للشعر أن ينتظر ظهور الشاعر العبقري، الذي يتمثل ما تنتجه المطابع من الموروث الشعري الأصيل، ويرتقي إلى درجة تقترب من فحوله. وكان الشاعر هو محمود سامي البارودي.
ويعدّ النقاد ومؤرخو الأدب شعر البارودي بداية الشعر الحديث ويخصونه باصطلاح: شعر الإحياء؛ لأنه باكورة الحداثة.
فما الحداثة في هذا الشعر؟ وما موقف النقاد من حداثته؟