يذكر الذين كتبوا عن البارود أنه انكب على دراسة التراث الشرقي، وأن شاعريته تفتحت بعيداً عن الشعر السقيم الذي كان يعاصره، وأن قصائده الأولى كانت معارضات لقصائد أبي تمام والبحتري- والمتنبي وأبي فراس والشريف الرضي. فيكون بذلك أول شاعر في العصر الحديث يدخل ساحة الشعر بديباجة عربية أصيلة.
ولو نظرنا في ديوان البارودي، لوجدنا أنه لم يأت بجديد، لا في موضوعات الشعر، ولا في شكله. بل إنه لم يخرج عن موضوعات عصره التقليدية. وشعره موزع بين المديح والهجاء والفخر والغزل ورياضة القافية، إضافة إلى لون، وجداني ساقته أحداث حياته.
ولكنه جاء بجديد إذا قسنا شعره بشعر معاصريه، جديده في الديباجة والأسلوبن وترك التكلف والبهرجة، فهو بهذا المقياس- ((حديث)) بين، شعراء يعيشون على القيم الفنية التي سادت في عصور الضعف والانحدار، وشعراء يحاولون التخلص منها، ولكنهم لا يحلقون، وهو بذلك رائد الحداثة، ريادته في العودة إلى التراث الشعري الأصيل، ومخالفة الذوق الأدبي الشائع في عصره. وهي مخالفة تجاوز السقيم إلى السليم.
إن الحداثة في شعر البارودي لا تحمل أي جديد بالمعنى اللغوي للجديد (أي الذي لم يكن موجوداً من قبل) ، ولكنها تحمل جديداً بالنسبة للعصر الذي كان فيه، للبيئة الشعرية المحيطة به، وجديده أسلوب عربي كان مدفونا في الكتب، بعيداً عن الواقع الشعري، وليس فيه أي لقاء مع أية ثقافة غير عربية، ولا ردة فعل لثقافة أجنبية وافدة، فالثقافة الوافدة آنئذ قليلة الشأن. وقد كانت حداثته- أو عودته إلى التراث الشعري الناصع- أنقع للشعر العربي من أية صورة أخرى يمكن أن يأتي بها.