ومن المفيد أن نذكر أن النقاد المعاصرين للبارودي لم يهتموا بجديده، ولم يستخدموا اصطلاح ((الحداثة)) في وصف شعره، ولكن بعضهم- وفي مقدمتهم الشيخ حسين المرصفي -[١] أعجبوا بقوة شعره، وقارنوه بالشعر العباسي، واستخدموا المقاييس البلاغية القديمة في إظهار حسنه. وكان أفضل نقد لشعره يقوم على الموازنة بين إحدى قصائده وإحدى قصائد أعلام الشعر العباسي. وطبيعي ألا نتوقع من هذا النقد أن يقدم أي مفهوم أو تطوير لمفهوم الحداثة.
تحديث خلفاء البارودي ((المحافظين))
لم يكن لاتجاه البارودي صدى واسع في عصره، غير أنه آتى أكله في الجيل التالي، عندما نهض به شوقي ومطران وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري وغيرهم. وقد عكف هؤلاء على قراءة شعره، إضافة إلى الشعر العباسي الذي أصبح في متناول أيديهم، وتأثروا بنماذجه المثلى، ويدل على ذلك معارضتهم الشعرية الكثيرة- وما زالوا يتزودون من عيون الشعر حتى استقامت لهم أساليبهم المتأثرة بها، فاستطاعوا أن يقيموا نهضة شعرية حقيقية، بعيدة كل البعد عن شعر التكلف والانحطاط، واستطاعت نهضتهم أن تؤثر في شعراء الوطن العربي، وأن تنهي آثار التخلف والانحطاط. وقد سماهم الجيل الذي خلفهم ((المحافظين)) ؛ لأنهم ترسموا خطا البارودي في المحافظة على جزالة الأسلوب العربي القديم ورصانته. وهم بلا شك محافظون في حدود هذا المعنى، ومحافظون أيضا؛ لأنهم لم يتخطوا حدود الثقافة العربية والقيم الشعرية الأصيلة إلا خطوات قليلة، وقد كانت الفترة التي عاشوها تتطلب ذلك.