وكان فعل اليهود هذا تسلية للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد قصّ عليه القرآن نبأهم حين ضاق النبي بتعنت قومه، وطلبهم الآيات:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}(النساء/١٥٣) .
وقد كان أهل الكتاب يعرفون محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون- كما يعرف كفار مكة- أن القرآن حق، وأنه من عند الله، ولكنها الكبرياء والعناد والجهل، عوائق تصدهم عن ذوق حلاوته، وفيهم يصدق قول أبى الطيب المتنبي:-
ومن يَكُ ذا فَمٍ مُرًّ مَريض
يجد مُرًّا به الماء الزُّلالا.
وقد عرض القرآن الكريم مختلف الأدلة والبراهين في كل قضية عرض لها، وكان يسلك أسلوب البسط أحيانا، وأسلوب الإيجاز أحيانا أخرى، وفي كلتا الحالتين كان يصل إلى نهاية المدى في إبلاغ الحجة، وإقامة الدليل، مع القوة والوضوح.
كان يتناول القضية فيَلمّ بجميع أطرافها حتى لا يترك فيها مقالا لقائل، أو يتناولها فيكتفي بموضع الحجة، ولكنها الحجة الحاسمة الدامغة.
ومن أروع ما في المحاجات القرآنية أنها لم تقتصر على خطاب العقل وحده كما هو الشأن في البراهين المنطقية، ولا على مخاطبة الوجدان وحده، كما هو الشأن في الخطابات، والأخيلة الشعرية. إنما كان يشرك مع العقل الوجدان فيخاطبهما معاً، وبذلك تبلغ الحجة من العقول والقلوب ما تريد، من تثبيت الحق، وإزهاق الباطل، وإقناع ذوى الفطر السليمة.