ولم تكن حجج القرآن وبراهينه مغرقة في الفلسفة، ولا موغلة في المنطق، ولا بعيدة عن الفطرة، بل اعتمد أكثرها على لفت النظر إلى المشاهد الحسية، والبديهيات التي لا خلاف عليها، وربما نظر بعضها إلى الإقناع المنطقي، ولكنه لا يستدعي التفكير الطويل، ولا يشوبه شيء من الغموض الذي يشوك طريق السالك إلى الحق:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(الأنبياء من الآية ٢٢){وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}(الروم من الآية ٢٧){مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم}(يس الآيتان ٧٨- ٧٩) .
وقد وجه القرآن الأنظار إلى كثير من آيات الله في خلق السموات والأرض، وفي خلق الأنفس، وسائر الكائنات، وضَرَبَ الأمثالَ وصرفها على وجوه كثيرة، وألزم المعرضين في كل ذلك الحجة على صحة ما وجههم أليه.
وربما استغرقت القضية -كما أشرت- العدد الكثير من الآيات، بل ربما جاءت السورة بأكملها -مع طولها- لتشرح قضية من القضايا، وتحتج لها، وربما اكتُفي بالآية الواحدة، بل بالجملة من الآية، بل بالكلمة فتقام بذلك الحجة، ويقنع به البرهان.
وسأكتفي في هذا البحث الموجز بالحجج القصيرة التي أغنت- مع إيجازها- عن كلام كثير.
- لقد سيطر الجهل على عقول المشركين فزعموا- فيما زعموا من ترهاتهم وأباطيلهم- أن لله ولدا، وقد حكى القرآن الكريم عنهم هذا الزعم في أكثر من آية:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً}(مريم الآية ٨٨) زعموا أن هذا الولد ليس من الذكور بل هو من الإناث: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}(النحل من الآية ٦٢) . {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً}(الإسراء الآية.٤) . وهذه هي الفرية الثالثة أنهم جعلوا الملائكة بنات الله.