- ومشركو مكة اتّهموا رسول الله محمدا- عليه أفضل الصلاة والسلام- بالجنون، ويبدو أن هذه كانت أول تهمة اتهموه بها، فقد جاء ذكرها في سورة القلم، وهى من السور الخمس الأوائل نزولا. ثم جاء ذكرها في آيات أخرى:{نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}(القلم الآيتان ١- ٢) . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ}(سبأ الآيتان ٧- ٨) . {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(المؤمنون الآية ٧٠) . {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} . (الدخان ١٣- ١٤) إلى غير ذلك من الآيات.
فماذا كان ردُّ القرآن عليهم في نفي هذه التهمة عن رسوله المبين؟
بأوجز كلمة وأقواها دلالة ردَّ عليهم القرآن الكريم في ثاني آية نزلت بعد:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وهي آية القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "نفى الجنون عنه، ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، وذلك لأن قوله:{بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} ، يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة عن كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبَّه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم إنه مجنون.