للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقول الإمام ابن القيم: "لما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا، لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل متشعب، ولعظم الاختلاف، فكفاهم أرحم الراحمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة وما يليق بها من النكال، وأنت تلحظ أن هناك تناسباً جيدا بين الجريمة وعقوبتها المقررة لها بحيث لو وضعت واحدة مكان أخرى أو لو عممت عقابا واحدا على جرائم متعددة لظهر لك على الفور الاختلال والاضطراب وعدم العدل في الأحكام.. فالشريعة مثلا عاقبت على السرقة بقطع اليد. ولكنها لم تعاقب على القذف بقطع اللسان، ولم تعاقب على الزنا بالخصاء. وعاقبت في القتل بالقصاص، ولكنها لم تعاقب في إتلاف المال بالقصاص، وسبحان اللطيف الخبير" [٨] .. هذا عن أن الحدود حكمة.. وأما أنها رحمة.. فهي كذلك بالنسبة للمنحرف ذاته، وبالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه.. أما بالنسبة للمجتمع فذلك ظاهر لما تجلبه له من شيوع الأمن والحماية الأموال والدماء! وبما تدفعه عنه من أذى العدوان والقلق والترويع. فإذا أرخص الإسلام دم قاتل، فلكي يحقن ألوف الدماء ويحيط الجماعة كلها بما يحفظ عليها حياتها وأمنها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة ١٧٩) أي حياة هادئة مطمئنة لا بغي فيها ولا عدوان.