قال {إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} يا سبحان الله! شخص واحد من البشر ليس له نصير من البشر اشتد حقد قومه الطغاة مجتمعين عليه ثم يقول لهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} !؟
إن هذا الموقف في عرف الناس وطبيعتهم البشرية يعتبر لأول وهلة تهور أو إلقاء بالنفس إلى الهلاك، وتركا لما يجب من الاتزان والحكمة التي يحفظ الإنسان بها نفسه، وإذن فيحق للمرء عندما يرى هذا الموقف الذي وقفه هود أن يتساءل: لماذا وقف هذا الموقف الذي يظهر لأول مرة أنه في غير محله، لأن بعض القوم وليس كلهم في استطاعتهم أن يهجموا عليه فيقتلوه، أو يحبسوه، أو ينفوه من أرضه، فتنقطع بذلك دعوته التي يجب عليه أن يلتمس لها سبل النجاح!
نعم يتساءل المرء هذا التساؤل عندما يقيس الأمور بمقاييسها الأرضية، ولذا أجاب ربنا على هذا التساؤل جوابا شافيا كافيا يلفت النظر البشري الأرضي إلى أن الأمر أعلى وأعظم من ذلك التصور الذي نشأ عنه هذا التساؤل، أنه أمر سماوي عظيم بعيد عن مقاييس البشر القاصرة، إنها تلك الصفة العظيمة تفويض العبد كل أموره إلى ربه تعالى واعتماده عليه اعتمادا كاملا، موقنا أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يصيبوه بمكروه لم يرد الله إصابته به، كما أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يؤتوه خيرا لم يرد الله إيتاءه إياه..
إنها صفة التوكل؛ ولذا قال بعد ذلك التحدي:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} أي خالقي وخالقكم المتصرف في وفيكم وفي العالم كله {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وهو سبحانه حكيم عادل يضع الأمور في مواضعها وينصر من يستحق النصر ويخذل من يستحق الخذلان لا يحيف ولا يجور {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .