علم مما مضى من البحث أن التوكل على الله من الأسس الهامة التي قام عليها دين كل رسول، وأن الإيمان لا يصح بدون توكل، وأن المراد بالتوكل تفويض العبد كل أموره الدينية والدنيوية إلى ربه تعالى، مع الأخذ بالأسباب، وهو أمر واضح لا لبس فيه ولا خفاء على من فهم دين الإسلام فهما صحيحا لا انحراف فيه..
غير أن هناك بعض من جنى على الإسلام ممن لا يفهموه على وجه العموم، كما لم يفهموا التوكل على الله على وجه الخصوص، كما أراد الله تعالى، ففرط بعضهم وأفرط آخرون؛ ولهذا رأيت أن أبين تفريط المفرط وغلو الغالي وصواب المصيب معتمدا في التخطئة والتصويب على نصوص الشريعة التي يسلك سبيلها العقل الصحيح والفطرة السليمة.
فأقول وبالله تعالى توفيقي وعليه توكيلي واعتمادي:
إن الناس في فهم التوكل ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
أفرط وبالغ فرأى أن التوكل على الله المراد منه ترك الأسباب التي جعل الله مسبباتها مربوطة بها، فعمل هذا القسم بهذا الفهم الخاطئ حتى رأى بعضهم أن من التوكل على الله الإلقاء بالنفس في المفازات الخالية بدون حمل زاد ولا ماء، وأن من التوكل ترك التداوي مهما بلغ المرض من الخطر، ومعنى هذا أن التوكل أن يلقي الإنسان بنفسه في المهالك التي يترجح فيها عادة ضرر الموت فما دونه، دون أن يتخذ وقاية مباحة، وهو أمر عجيب يبرأ منه الدين وحاملوه الفاهمون لحكمه وأسراره كما يأتي بيان ذلك في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني:
فرط وأساس تفريطه أنه فهم معنى التوكل ما فهمه القسم الأول، وقارن بين ذلك الفهم وبين السنن الكونية والأسباب المباحة الطبيعية فتعارض عنده الأمران، وصعب عليه التوفيق بينهما بمقتضى هذا الفهم، فرجح جانب الأسباب مستقلة بمسبباتها توجدها إذا شاءت وتعدمها إذا أرادت، وكلا الفهمين خطأ، وكلا الفريقين ضال والصواب الذي لاشك فيه هو: