بهذه القدرة اللغوية في فهم النصوص القرآنية والأشعار يناقش الراغب أبا عبيدة معمر بن المثنى أحد شيوخ اللغة والنحو في بداية القرن الثالث الهجري، ويظهر خطأه في أن معنى كلمة (بعض) في الآية {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو (كل) وذلك بفقه شرعي متميز يوضح ما يجوز لصاحب الشرع أو للنبي عليه السلام أن يبينه وما لا يجوز له أن يبينه، وبالتحاكم إلى فهم سليم لنصوص الشعر، في شطر بيت الشعر المنسوب إلى لبيد، حيث يعني نفسه ولم يعن كل الناس، وننظر إلى قوله:"وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه"، إنه يريد أن يقول هذا ظاهر في كل نظر متجرد عن الهوى وبالنظر الموضوعي، كما نقول في هذه الأيام. ولننظر إلى قوله:"حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته"أليست نظرة واقعية إلى طبائع الناس في استبعاد ذكر موتهم، في هذه الحياة؟
خامساً- تطور اللغة- ويبدو أن أبا القاسم الراغب لا يتوفر على خبرة لغوية واسعة وعلى فهم دقيق لأسرار هذه اللغة وحسب؛ بل إن خبرته اللغوية قد مكنته من إدراك التطور الذي أصاب اللغة العربية منذ مرحلة النشأة الأولى التي تبدو في مفرداتها المطلقة على الأمور المادية المحسوسة إلى مرحلة التطور والتقدم الذي أخذت فيه هذه المفردات دلالات اصطلاحية ومعنوية جديدة, ولننظر لذلك فيما قال في كلمة (الفارض) :
" (والفارض) : المسنَّ من البقر، قال:{لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} ، وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض أي قاطعا، أو فارضا لما يعمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنّة يصح بذلها في كل حال. فسميت المسنّة فارضة لذلك. فعلى هذا يكون الفارض اسماً إسلامياً".