فالقرآن الكريم وحدة متكاملة وكتاب منزل على نسق واحد وأسلوب واحد ولأجل هدف واحد. فكون للآيات المكيةّ خصائص وللآيات المدنية خصائص لا يعني أن القرآن منقسم إلى قسمين لكل دوره المستقل الذي يؤديه كما يروج لذلك الدائبون على حرب الإسلام ومحاولة هدمه. فكل ما في الأمر أن سُنّة التدرج وتقديم الأهم في ظرف ما اقتضت تكثيف آيات العقيدة في مكة وتكثيف آيات التشريع في المدينة. ولو لم يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة جميع حياته لنزل القرآن الكريم كما هو واكتمل الدين كما اكتمل ولتمت النعمة كما أتمها الله.
ولعلنا استرسلنا في هذه المسألة التي سيكون لها مبحث في مكان آخر من هذه الدراسة إن شاء الله عندما نتحدث عن الكتاب الكريم، وإنما أشرنا إليها هنا لنتمكن من الحديث عن أن القرآن الكريم هو الأصل الأول من أصول الفقه، وبذلك فهو مبدأ هذا العلم وأساسه ومنشؤه. وما درج عليه الأصوليون من أن علم الأصول بدأ بعد بداية علم الفقه، وأن علم الفقه نفسه بدأ عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المقصود به بداية تنظيم العلم وكتابته وتسميته بهذا الاسم الاصطلاحي, وهذا لا خلاف عليه, وأما الذي قصدناه هنا فهو أن حقيقة الأصول ونشوءها وإرساء قواعدها بدأ تكوينها منذ بدء الرسالة واكتملت مع اكتمال القرآن والسنة، ثم جاء فصلها في علم خاص لاحقا، ولم يسبق تكوين الأصول أو يتأخر مبدؤه عن بدء البعثة المحمدية.
وفيما يلي سوف نعطي نبذة عن علم الأصول في مراحله المختلفة ابتداء من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. وستكون هذه النبذة مائلة إلى الإجمال، ثم نتعرض بعد ذلك للأصول التي سيرد ذكرها في هذا العرض بشيء من التفصيل والمقارنة، موضحين أوجه الاتفاق والاختلاف بين المراحل المختلفة وبين المدارس الفقهية المتعددة.