أما أنت أيتها ألام الرائم, فلن يطرق الباب عليك ذلك الطارق الذي تتوقعين, إنه لن يعود مع هؤلاء العائدين, هذه الرسالة التي أكتبها إليك اليوم, هي التي ستعود هذا العام, وتقرع عليك الأبواب، لك الله يا أماه! لك الله! كم تحمّلتِ في سبيلي من متاعب ومصاعب, عشرون عاما تتابعت آخذاً بعضها بعناق بعض, وأنا أتقلب في أحضانك العاطفة، تحت أجنحتك الوارفة, دون أن يعينك على الحياة زوج, أو يقف إلى جانبك فيها البنون, إنما هي عشرات من غراس الزيتون لا يكاد جناها يفي بحاجات الحياة.
كم وفرت لي لذيذ الطعام والشراب, وحرمت منه جسمك الغرثان, لم يكن ليصدق من يراك ويراني صغيرا أمشي خلفك تارة, وأثب عن يمينك ويسارك تارة أخرى, ما كان ليصدق أن هذا الطفل الذي تسيل أعطافه صحة وحياة, ويطفح وجهه رفاهاً ونعمة -أنه ابن هذه المرأة الطاوية البطن, المعروقة العظام, العارية الأشاجع.
هذا الطفل الذي ربيته وأنفقت عليه من شبابك عشرين ربيعا, صابرة تنتظرين فيه العزاء والعوض عن أبيه, صادفة عن الخاطبين وهناء الزواج حرصا عليه وإبقاء على حب والدة, هذا الطفل الذي أوشكت أن تبلغي به ما كنت تؤملين، هذا الطفل الذي كنت تتوقعين أن يؤوب إليك هذه الأيام حاملاً شهادته العالية بدلا من أن يبعث إليك بهذه الرسالة يخيل إليك اليوم أنه قد ضاع من بين يديك, وأنك قد فقدته أبدا, أو أن يعود إليك كما عاد أبوه من قبل عشرين عاماً محمولاً من المعركة, قد نزفت دماؤه, ولمّا يمض على زواجكما سنه كاملة.
كنت تريدينني ذا مكانة تتيهين بها على سائر الأمهات, نسكن بيتاً جميلاً مطلاً على القرية من فوق رابية الزيتون, نغدو ونروح في سيارة فارهة كيفما نشاء وأنّى نريد, كنت تريدين أن تثأري لسنوات الحرمان الطويلة, كنت تريدين ... وتريدين ... وأريد ... وأريد ...