(أما بعد، فإنه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحهم على أمر لا نفي لهم به) .
وبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يخبره بما أمر به أمير المؤمنين، فأجاب، قد فعلت.
فجمع عمرو ما بأيدي المسلمين من الأسرى، وحضر النصارى ليشهدوا التخيير، وأخذ المسلمون يخيرون الأسرى واحدا واحداً، فإذا اختار أحدهم الإسلام كبر المسلمون، وحازوه إليهم، وإذا أختار دين قومه نخرت النصارى، وحازوه إليهم، ويحزن المسلمون لذلك حزنا شديدا، ويضربون عليه الجزية، وظل ذلك دأبهم حتى انتهوا من الأسرى، وكان ممن اختار الإسلام أبو مريم أحد رؤساء النصارى [٤٩] .
وأحصى عمرو أهل مصر ممن وجبت عليهم الجزية والخراج فكان مجموع ما جبي منها ألفي ألف دينار [٥٠] أي بلغ مليونين من الدنانير، وقد تم ذلك في عام ٢٣ من الهجرة في نهاية خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - وقد بلغ من حرصه على الإسكندرية بعد الفتح الثاني أنه كان يبعث في كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط في الإسكندرية، وكان يوالي ذلك دائما، فلا يغفل عنها، ولا يأمن الروم عليها وظل الأمر كذلك حتى انتقل إلى مثواه الأخير -رضي الله عنه وأرضاه في جنات النعيم-.