إن مجرد (إعلان حقوق الإنسان) في العصر الحديث شاهد صارخ على أن هذه الحقوق لم تكن شيئاً مذكوراً عند طواغيته، فهم يريدون استحداثها للتخفيف أو لإِيهام التخفيف من أعباء الشقاء الذي تعانيه الإنسانية تحت كوابيسهم.. وقد فاتهم أن حقوق الإنسان أكبر من أن تكون منحة يتصدق بها (الطغاة) بل هي قيمة أساسية خلقت معه منذ أن أخرجه الله من عالم العدم إلى نطاق الوجود، ثم لم يهبطه إلى هذا الكوكب إلا بعد أن أسجد له ملائكته، تكريماً لنوعه، وتفضيلا له على سائر مخلوقاته الأرضية.. ولو استقام هذا الإنسان في الطريق الذي خطه له خالقه لما وجد إنسان نفسه في حاجة إلى من يلوّح له بهذا الحق. ولكن الشيطان الذي أعلن منذ ذلك اليوم ملاحقة الجنس البشري بالإفساد والتضليل، قد استطاع أن يضرب بين الإخوة فإذا هم بين ظالم ومظلوم، وقاتل ومقتول.. وهكذا استحالت الحياة التي ينبغي أن تكون جنة من المودة والرحمة، حلبة صراع لا يثبت فيها إلا المتفوق في القسوة والمكر وفنون التخريب ثم استحالت اللغة نفسها على ألسنة البغاة أداة للتزوير، فهم بها يسمون الأشياء بأضدادها، فالعبودية التي يفرضونها على الشعوب هي الحرية المفضَّلة، والتعاون بينهم على استنزاف طاقات محكوميهم هي الحقوق التي يجب أن يصفقوا لها؛ ويقيموا الحفلات لذكراها ... ولو هم صَدَقوا العمل، وآمنوا بخالق الإنسان الذي سوّاه وعَدَلَه وكرّمه لوسعهم أن يعيدوا إليه الكثير من حقيقته التي سلبها الطواغيت، ومسختها المناهج المفسدة التي يسوسون بها الشعوب، وإذن لاسترد هذا الإنسان إيمانه بخالقه، ومن ثم إيمانه بنفسه وبرسالته التي هي تحقيق ملكوت الله في هذا الكون.. ليس فقط في نطاق السيادة على عالم المادة بل على نطاق الحياة بأكملها، بكل ما في الحياة من حاجة إلى البر والعدالة والأخوَّة، حتى يكون (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام) .