للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

٣- إن هذا التراث يقوم على الديمومة لأنه يتمثل في المجتمع المتحضر الذي أبدى لسان الحقيقة. وهذا يعني أن جوهر التصور الذهني والفكري للذين أوجدوه كان مبنياً على اليقين. أما المجتمع الذي نعيش فيه، فيقوم على عكس ذلك تماماً: لا ديمومة تمثل الحقيقة، ولا ثبات يرافق النمو الفكري والإبداع العقلي، ولقد حل الشك محل اليقين. إن مجتمعنا كتصور ذهني، قد بني على الفرضية ونقيضها في نفس الوقت.

٤- كان المجتمع العلمي الذي ولَّد هذا التراث، في كل ميادين أبحاثه، يعمد إلى تفكيك العناصر ثم تركيبها وفق قوانين مستقاة من سنن صدرت عنها هذه العناصر. والاتجاه العلمي المعاصر يعمد فقط إلى تفكيك العناصر إلى وحدات، ثم يعمد إلى هذه الوحدات فيفككها إلى وحدات أخرى أصغر، ثم أصغر حتى تفقد كل صلة لها بأصولها الأولى، أو بالقوانين التي بنيت عليها والنظم التي جمعت بينها. ولقد عبر ابن خلدون عن الرؤية العلمية التي كانت عند أصحاب هذا التراث فقال:

"وأما العلوم التي هي آلة لغيرها (.....) ، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها من المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود" [٩] .

نستخلص من كل ما سلف أن الإفادة من التراث تستدعي منا تأمين شروط معينة بدونها لا نستطيع استيعاب كل الأبعاد الحضارية لهذا الفكر. وقد تثير هذه النظرة حفيظة "المغتربين"أي الذين طوتهم معايير المقاييس الغربية، ولكن لا بأس علينا منهم.