وعناية الشاعر الجاهلي بشعره: بالنظر فيه وتقويمه وتثقيفه منحي نقدي جاهلي، سار على نهجه كثير من الشعراء الذين تتابعوا عبر العصور.
ومن هؤلاء الشعراء الذين جروا في طلق الشعراء الجاهليين عدى [١٣] بن الرقاع، وسويد [١٤] بن كراع، ومروان [١٥] بن أبي حفصه، فها هوذا عدى بن الرقاع يتحدث عن تقويمه لشعره وتثقيفه له فيقول:
حتى أقوم سيلها وسنادها [١٦]
وقصيدة قدبت أجمع بينها
حتى يقيم ثقافه منادها [١٧]
نظر المثقف في كعوب قناته
وهذا سويد بن كراع يصف نزعة الصناعة وصفاً أدبياً في وجه البداهة والإرتجال إذ يقول: [١٨]
أصادي بها سرباً من الوحش نزعا [١٩]
أبيت بأبواب القوافي كأنما
يكون سحيراً أو بعداً فأهجعا [٢٠]
أكالئها حتى أعرس بعد ما
ثم يقول:
فثقفتها حولاً حريداً ومربعا [٢١]
وجشمني خوف ابن عفان ردها
فلم أر إلا أطيع وأسمعا
وقد كان في نفسي عليها زيادة
وأما مروان بن أبي حفصة فيتحدث عن صناعته لشعره، ومعاودة النظر فيه وتقديمه، فيقول: "كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس، فقيل له: فهذا هو الحولي المنقح " [٢٢] .
ولم يقف الأمر بالشعراء الجاهليين عند حد شعرهم بالتأمل فيه والنظر إليه، ومحاولة تنقيحه وتهذيبه ... بل تعدوا ذلك، فكان منهم من يتجاوز النظر في شعره إلى النظر في شعر غيره، فيتناوله بالفحص والتدقيق وإنعام النظر فيه مرة بعد مرة، ثم يعقب على ذلك، بما يرى من استحسان أو استهجان.
ومن الأمثلة التي روتها كتب الأدب لحكم بعض الشعراء على بعض، ما روى أن النابغة [٢٣] الذبياني فقد حسان [٢٤] بن ثابت، حصان أنشده قوله:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى