كانت هذه مظاهر من الحفاوة والإكرام اصطنعها الداهية ليستميل إليه عبد المطلب وليبعث فيه ثقة واطمئناناً إذ بدا لأبرهة أن مقدرات مكة وكعبتها أمست بين أنامله وأن قريشاً في قبضته؛ رجالها ونساءها وأموالها، وإن جيشه قادر على الفتك وإنزال العار. وكان أبرهة يريد الكعبة لا قريشاً وأستقدم عبد المطلب ليهب أبرهة له قريشاً وليأخذ منه الكعبة فيظفر بما أراد وقد من على قريش وسيدها وأفضل. وأما عبد المطلب فقد جاء أبرهة وهو يحمل معه أمانتين؛ أمانة الله فهو حاجب الكعبة وساقي الحجيج, وأمانة قومه فهو نائب قريش وصاحب كلمتها في هذا الموقف الصعب. ولقد توقع أبرهة أن يتهالك عبد المطلب على كرسيه يطلب رحمته كما فعل من قبله, وأدرك عبد المطلب ما في نفس أبرهة فصمت, ولم يفتح الحديث تجاهلا منه للأمر العظيم الذي يريده أبرهة, وتحاشيا أن يطلب مطلبا يتخذ منه أبرهة ركيزة للمساومة على الكعبة. لقد كان عبد المطلب في موقف ضنك فإن أية كلمة تحمل معنى الاسترحام لقريش والإبقاء عليها تنطوي على تنازل خطير في حق بيت الله الحرام. ومن ثم آثر ألا يتكلم في منجاة قومه حتى ألا يضيَّع أمانة الله ولما ضاق أبرهة بصمته سأله عن حاجته فقال:"حاجتي أن يرد علي الملك مئتي بعير أصابها لي"أهذا المَطْلَب كان همَّ عبد المطلب ومصدر قلقه؟ ألهذا طيف به في الجيش وعلى الأسارى واستقدم إلى الملك؟ وماذا يفعل بالشاء والبعير ومكة كلها في خطر داهم, كلا لم يكن هذا المطلب من واقع الحساب في شيء, ولكن عبد المطلب عمد إلى تجاهل مراد أبرهة تجاهلا تاما ليعلمه أن لا تنازل عنده في حق بيت الله الحرام ولو قيد شعرة, وأن التسليم بتهديمه ليس موضوع بحث على الإطلاق ولا مساومة فيه. وفهم أبرهة ما في طلب القرشي من معنى فاستشاط غضباً وعمد إلى إثارة الموضوع من قبله قائلا - وهو مغيظ -: "قد كنت أعجبتني حين رأيتك, ثم زهدت فيك حين كلمتني, أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك,