للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتترك بيتاً هو دينك, ودين آبائك قد جئت لهدمه, لا تكلمني فيه [٢] وأجاب عبد المطلب بقول مرهف حاسم لا مجال بعده لجدال أو ادهان: "إني أنا رب الإبل, وإن للبيت ربا سيمنعه" [٣] . وخرج من عند أبرهة إلى قومه خرج من المعركة النفسية منتصراً, ولم يظفر منه بطائل, ولقد كان في الكلمات الموجزة الحادة كل ما أراد عبد المطلب أن يفصح عنه وأن يفهم الغازي. قال له: "أنا رب الإبل؛ الإبل مال اكتسبتُه واكتسبتْه قريش فلي ولهم الحق أن يطلبوه. وإذا كان لي ولهم الحق في طلب أو مباحثة أو جدل فيما هو ملك لنا ومن حقنا. وأما البيت فهو بيت الله وليس لي ولا لأحد فيه من الحق كما في الإبل, ولا يحل لي بحال من الأحوال أن أتكلم فيه, أو أساوم عليه, أو أتذلل لك في أمره فإن ربه أولى به وبحمايته". إن عبد المطلب قد أوضح في هذا القول البليغ الحدود التي تقف عندها صلاحيات الزعامة, والموقف العدل الحق الذي إن التزمه الزعيم كان من الموفقين. فبيَّن فيه أن ثمة حقوقا كبرى في حياة الأمة وذمما تاريخية وإلهية لا يحق لأي ذي سلطان أو نفوذ أن يمسها وأن يجعل في مهب أهوائه ومصالحه إن شاء أخفرها أو ساوم عليها. وإن التاريخ يشهد بأن النصر يقف دائما حيث يقف أولئك الزعماء الذين يلتزمون الحق الأعلى لا يجاوزنه ولا يقبلون به عدلا أو حلا وسطا. وقد رضي الله لعبد المطلب صلابته في حرمة بيت الله وثباته فأرسل على الغزاة العتاة جنداً من السماء: {طَيْراً أَبَابِيلَ, تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ, فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [٤] وما كان هذا التوفيق الإلهي في تلك الساعة لعبد المطلب نفسه وإنما لجنين في رحم آمنة بنت وهب قد بلغ منه سبعة أشهر وكان أبوه في تلك الأثناء في يثرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وأمه تجلس في بيتها تنتظر عودة زوجها الغائب وتترقب مع الناس قلقة أوبة حميها في معسكر أبرهة: هذا الجنين الذي أذن الله له أن يتنسم أنسام مكة بعد خمسين يوما