هذه الدلائل هنا صريحة ولإعلام أم موسى بها, ومريم وزكريا وإبراهيم وزوجه إعلاما مكشوفا, أسباب لا تخفى, ولم يكن سبب منها لآمنة. فكان رؤياها النور الذي أضاء لها القصور من بصرى الشام رمزا للمستقبل. ولو أن الأمر يتطلب ما فوق الرمز لجاءها من الله بيان. ولكنها أعطيت ما يكفيها لتتنبه لشأن وليدها. ولم يعترض حياتها وحياة وليدها من الظروف النادرة أو الخطرة أو المغايرة للمألوف - كظرف إبراهيم وزكريا - ما يقتضي الوحي. فكان الرمز هو القدر المناسب الكافي ليبعث في نفس آمنة التوقع والتفاؤل.
ب- التمهيد التاريخي للرسول:
وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه, وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات, وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين, وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان, ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد, إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته, وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة, وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر.
وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه, فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة:{قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}[٣٤] ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد صلى الله عليه وسلم.