للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولو نظرنا باقي المجتمع القرشي, قبل المبعث لوجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, ملحوظ المكانة فيه, ظاهر الشخصية, مرضي السيرة, مرجوا للخير, يدل علي ذلك لقب (الأمين) الذي أضفوه عليه. وهو لقب - لو سبرنا بعيد مدلولاته - ضخم المحتوي, فالأمانة سجية تجمع لصاحبها سلامة السريرة والسلوك, وصدق الطوية والفعل, فلا تناقض بين مظهره ومخبره, بل يصدق فعله قوله, ويصدق قوله وجدانه وخبيئة نفسه. فالأمانة أول معني لها الاطمئنان والثقة؛ اطمئنان الآخرين إلى شخص الأمين, وثقتهم بما يصدر عنه. وهي سجية لا يشهد بها لامرئ إلا بعد التجربة والاختبار المتواتر [٤٣] المستمر. ويمكن أن يقال بحق: إن الأمين من أمن الناس لسانه ويده. وهكذا كانت قريش قبل المبعث لا تخشى من رسول الله صلى الله عليه وسلم معرة, ولا يتخوفون منه كذبا, ولا يتوقعون منه إلا استقامة, وخطة حميدة, ولا يعرفون فيه إلا نبلا وشرفا ووفاء. ولا نكاد نجد لقبا أجمع لخصال المروءة والرجولة والعدالة من لقب الأمين. وهي خلال ترشح صاحبها لسيادة الرئاسة والزعامة. وهو لقب ينطوي خصال نابعة من الذات, ومن جوهر النفس ولا ينم عن صفة جسدية - كلقب أبي لهب مثلا - أو على خصلة وحيدة غالبة, منفصلة عن مجموع الخصال التي تؤلف التكامل في الخلق والنفس, - كلقب الفيض والفياض مثلا للكريم المترف - ولا أظن أنه لقِّب في قريش غير محمد بهذا اللقب. ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في قومه زعيما, ولا طالب زعامة, ولم تعرف له - قبل النبوة - فئة تدعمه ولا شاعر يمدحه. فيكون لقبه منهم وإنما هو لقب فاز به بإجماع قريش كلها رجل كان أبعد الناس عن حياة ذات قصد نفعي, أو إشادة بالذات, وأزهد الناس في تقدم الصفوف, بلد الرئاسة والشرف. وبهذا يكون مجتمع مكة قد شهد على نفسه, وشهد عليه التاريخ بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي كان وحيد قومه في خصال الخير, وأسباب الفضل والعدل,