لما بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بيت الله الحرام، وأذن إبراهيم في الناس بالحج, وجاءه المؤمنون من كل فج عميق, وعبرت على ذلك قرون, احتلت الكعبة مكانها الأقدس في قلوب العرب, وعلت مكانة الذين حولها يتعهدون الحجابة, والسقاية, والرفادة, والعمارة والشعائر. وتمتعوا بنفوذ وسلطان وأمن, وأصابوا سؤددا وغنى. فتنافس المتنافسون من جرهم ثم خزا عة على مكة وبيتها الحرام, واستضعفوا أبناء إسماعيل, وغلبوهم على أمر البيت. فاعتزل أبناء إسماعيل السلطة والحكم, وصاروا قطعا حلولا وصرما في قومهم بني كنانة [٤٤] في السهول والبوادي والجبال, فيما حول مكة, يكاثرون, ويظهرون على مناوئيهم حتى رث أمر خزاعة, فجمع أحد رجالهم الأشداء, قصي بن كلاب, القبائل من فهر, وهي التي تؤلف بمجموعها قريشا, واستعان بقوة من اليمن [٤٥] , وضرب خزاعة ضربة قاصمة خلصت مكة بعدها له، وانتهي إليه الحكم فيها بغير منازع. وكان قصي بن كلاب أول جد قرشي، لرسول الله صلى الله عليه وسلم حكم مكة فاجتمع له ما للملوك من أسباب الملك، ومن المهابة والسلطان، فدانت له قريش كلها بالسمع والطاعة وجمع في يده السلطة السياسية والدينية فأتاح ذلك لأبنائه [٤٦] فرصاً للنبوغ والظهور والشرف والثراء. ولم يكن له في قريش كلها منافس، وما كان أبناؤه يخشون من بعده مزاحماً، وبدأ البيت الحاكم في مكة في أحسن أحواله منعة جانب، واتحاد رأي ومذهب. ولكن قصياً قبل وفاته أحدث فيه أول زعزعة، إذ جعل الأمر من بعده لابنه عبد الدار، وهو أقل أولاده حظاً من شرف وسؤدد. وكانت الأنظار تتجه إلى عبد مناف لما أصاب من شرف في حياة أبيه، ولكن الأخوة أذعنوا لأمر الأب المهيب، والأمر الحازم، فقد كان قصي لا يخالف ولا يرد عليه بشيء صنعه. واستطاعت هيبة قصي، ومراعاة أبنائه لحقه، واحترامهم لكلمته فيهم ولذكراه أن تحفظ الأمر بينهم من بعده كما أراده أبوهم من غير شقاق أو خصام، وحكم عبد الدار