فالصبر إذا ميدان التجربة، وهو الكاشف الحقيقي للأفكار المتصارعة وفائدتها الكبرى هو هذا الالتحام والنزال بين العقيدتين وكان من الهين على رسول الله أن ينسحب بالفكرة، والرسالة إلى أرض، لا يلقي فيها مقاومة ولكنه عندئذ لا يربح المعركة، وما يكون كسب المعركة إلا باللقاء, ولهذا أمر محمد صلى الله عليه وسلم بنوع خاص من الصبر هو الصبر الجميل. وهذا الصبر جميل في أسلوبه وفي عواقبه اتصال بالمناوئين وهجوم على قلوبهم بالعقيدة ومجابهتهم بالحق، بما لدى الرسول من الحكمة والموعظة الحسنة حتى إذا طاشت أحلامهم وثاروا به ثبت لهم ولم يتراجع حتى يرهبهم صبره وتهزمهم عقيدته ولا أبلغ من تصوير هذا الواقع من انهزام الكفار انهزام عقيدة ونفس من قوله تعالى فيهم:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ, كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ, فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[١٠] .
ومن ثم تبدو مواقف النبي صلى الله عليه وسلم خارجة عن طاقة أي إنسان، ولو كان شديدا ولعل هذه البطولة هي التي تكسبه الأنصار بل تنتزع الرجال من صفوف الخصوم إلى صفوف الأنصار تأخذهم روعة الموقف البطولي، فيعبرون البرزخ إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. ألم يعبر عمر وخالد وغيرهما البرزخ جهارا.
إن هذه المواقف الخالدة في عالم البطولة فرضت احترام النبي على الأعداء، فقال فيه أحد معارضيه:"هو القرم الذي لا يقدع أنفه"[١١] وهي التي بعثت الإعجاب في عمه أبي طالب وعشيرته، فاحتملوا من أجله ما احتملوا.