وبالنظر إلى هذه المذاهب نجد كل واحد منها نظر إلى العقوبة والغرض منها من زاوية واحدة ولو نظر إليها من جميع الجهات فقد يجد الأغراض الأخرى يمكن أن تأتي تبعاً للغرض الذي يراه هو المقصود، وكما تقدم أن العقوبات في الشريعة الإِسلامية هي في الدرجة الأولى استصلاحية بيد أن هذا لا يمنع أن تردع العقوبة وأن تزجر في نفسِ الوقت كما لا يمنع أن تكون قصاصاً من الجاني فيه معنى الانتقام فتتحقق الأغراض جميعاً، وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون هناك مسائل استثنائية مثل قتل المرتد وقتل القاتل قصاصاً إذ لا يتأتى إصلاح الشخص بعد إزهاق روحه ومثل هذا روعي فيه مصالح أخرى تتعلق بنظام المجتمع وأمنه يجب أن تراعى قبل مراعاة مصلحة الجاني.
ومما يؤيد القول بأن العقوبات في الشريعة الإسلامية استصلاحية نظرية العفو في الشريعة الإسلامية في مجال التعازير والقصاص والديات ... فلولي الأمر أن يعفو عن تعزير من استحقَ التعزير إذا رأى أن المصلحة في ذلك مثلما إذا تاب المذنب وندم على ذنبه واستقام وهكذا.
أما الحدود فلا مجال للعفو فيها إذا وصلت إلى الحاكم إنما شرع التستر على المسلم ومنع التجسس عليه، والحدود تدرأ بالشبهات وكل ذلك يؤيد أن الاستصلاح مراعى فيها بالدرجة الأولى.
والعقوبات في الشريعة الإسلامية - وخاصة الحدود - أُحيطت بضمانات كثيرة حتى تنحصر في أضيق دائرة ممكنة فالحدود تدرأ بالشبهات والإثبات فيها اقترن بضمانات قوية تمنع الكذب كما أن الإسلام في تطبيقه القضائي ما سوغ لأحَد التتبع والتجسس على الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ... } . (الحجرات: ١٢) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ... "[٤] .