والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم هو الارتياب في شأنه، أو للتنبيه على أنّ كلامهم في شأن القرآن هو بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح الدلائل الدالة على أنّ القرآن من عند الله تعالى.
وعبر بقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} ولم يقل: وإن ارتبتم فيما نزَّلنا, للإشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك، وأنه إن أثير حوله أي شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم، وضعف تفكيرهم، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم.
وأتى بـ (إن) المفيدة للشك مع أنّ كونهم في ريب، مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر محقق، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أيّ أحد، وتوبيخاً لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
ووجه الإتيان بـ (في) الدالة على الظرفية، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
وقال:{نَزَّلْنَا} دون أنزلنا؛ لأن المراد النزول على سبيل التدريج، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجّما في مدة تزيد على عشرين سنة.
قال صاحب الكشاف:"فإن قلت: لم قيل: {مِمَّا نَزَّلْنَا} على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم, وذلك أنهم كانوا يقولون: "لوكان هذا القرآن من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة، وآيات غب آيات، على حسب النوازل، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد حيناً فحيناً، حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة ... " فقيل لهم: "إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل" [١] .