فإذا كانت هذه الأمة قد أرشدت إلى كتابة الدين وأمرت بتوثيقه، لكون ذلك أحفظ للمال، وقاطعا لطريق إنكاره، فلننظر إلى أي مدى أخذ الفقهاء بهذا الأمر، فهل حملوه على الوجوب بحيث لا يصح إثبات الدَّين إلا بالكتابة والإشهاد عليه، أم هذه للندب والإرشاد فيجوز ترك الكتابة عند ائتمان المدين والوثوق بصدقه؟
(١) ذهب فريق من الفقهاء إلى أن كتابة الديون الآجلة والإشهاد عليها قد كانا واجبين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه} ولكن قد نسخ الله هذا الوجوب بقوله تعالى في الآية التي تليها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ... } الآية (البقرة: ٢٨٣) . روي هذا القول عن الشعبي والحسن [٢] .
(٢) قال آخرون: هذه الآية محكمة ولم ينسخ منها شيء، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"لا والله آية الدين محكمة، وما فيها نسخ". وعن أبي بردة عن أبي موسى قال:"ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم، رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}(النساء: هـ) ، ورجل له على رجل دين فلم يشهد عليه". قال الجصاص:"قال أبو بكر: وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
وروي عن الضحاك عن الذي لم يكتب دينه الآجل ولم يشهد عليه:"إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره".
وقال سعيد بن جبير:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . (البقرة: ٢٨٢) . يعني أشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أولم يكن أجل، فأشهد على حقك على كل حال [٣] .